img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

مكانه‭ ‬ليس‭ ‬هنا


ترافق‭ ‬بداية‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مليتا‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬2006‭ ‬مع‭ ‬مجيئ‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬سبقته‭ ‬تلك‭ ‬الهالة‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬الشخصيات‭ ‬القيادية‭ ‬المهمة،‭ ‬فهو‭ ‬رسول‭ ‬الجمهورية،‭ ‬وهو‭ ‬الشخص‭ ‬المنتدب‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الإمام‭ ‬القائد‭. ‬عندما‭ ‬جاءنا‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الارتباك‭ ‬والرهبة‭ ‬عند‭ ‬استقباله‭.‬
كان‭ ‬هو‭ ‬المبادر‭ ‬لأول‭ ‬لقاء،‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬الغداء‭ ‬لكنه‭ ‬خجل،‭ ‬وطلب‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬الرسميات،‭ ‬لقد‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تبديدها‭ ‬منذ‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭.‬
سعى‭ ‬أن‭ ‬يزيل‭ ‬كل‭ ‬بوابات‭ ‬الإدارة‭ ‬والرتب،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يفتح‭ ‬العلاقات،‭ ‬ويمزح‭ ‬ويضحك‭ ‬ويزيل‭ ‬الحواجز‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬استطاع‭ ‬رفع‭ ‬هذه‭ ‬الحواجز‭ ‬تماما‭ ‬أثناء‭ ‬العمل،‭ ‬وفي‭ ‬الجلسات‭ ‬الخاصة،‭ ‬سعى‭ ‬بتواضعه‭ ‬ودماثة‭ ‬أخلاقه‭ ‬ان‭ ‬يزيح‭ ‬هذه‭ ‬الهالة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬أحب‭ ‬وجودها‭ ‬أبداً‭. ‬
كان‭ ‬يتعاطى‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬بحميمية‭ ‬وتواضع‭ ‬شديد،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬أعمارهم‭ ‬أو‭ ‬مستوياتهم‭ ‬التنظيمية،‭ ‬أو‭ ‬العملية،‭ ‬أصغرنا‭ ‬شأنا‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬أنه‭ ‬صديق‭ ‬للحاج‭ ‬حسام،‭ ‬وكانت‭ ‬لديه‭ ‬قدرة‭ ‬غريبة‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬القلب‭ ‬وكأنه‭ ‬صديق‭ ‬قديم،‭ ‬قريب‭ ‬كالأرحام،‭ ‬وقدرة‭ ‬غريبة‭ ‬ايضاً‭ ‬على‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الصداقة،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يصدر‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬يؤذيها‭ ‬أو‭ ‬يشوهها،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬كانت‭ ‬تتعمق‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬وتصفو،‭ ‬وتظهر‭ ‬جوانب‭ ‬اخرى‭ ‬من‭ ‬شخصيته،‭ ‬تجعلنا‭ ‬نزداد‭ ‬عشقا‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬الوقت،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬التواضع‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬منذ‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول،‭ ‬وأزداد‭ ‬وضوحاً،‭ ‬وظهرت‭ ‬جوانب‭ ‬أخرى،‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬الفذة،‭ ‬في‭ ‬براعته،‭ ‬وذكائه،‭ ‬وأسلوبه‭ ‬المميز‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬عمله،‭ ‬وفي‭ ‬أفكاره‭.‬
التقى‭ ‬مرات‭ ‬عديدة‭ ‬بالمهندسين‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬مليتا‭ ‬حيث‭ ‬أعمل،‭ ‬وأعطى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬المبدعة،‭ ‬وكان‭ ‬اللافت‭ ‬في‭ ‬أفكاره‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬تدينه،‭ ‬وحبه‭ ‬للمقاومة،‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬النابع‭ ‬من‭ ‬إيمانه‭ ‬بالله،‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭ ‬لم‭ ‬تنفذ،‭ ‬وإن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬ستتحقق،‭ ‬فنحن‭ ‬نميل‭ ‬إلى‭ ‬تنفيذها،‭ ‬ومنها‭ ‬فكرة‭: ‬المسار‭ ‬الراجل،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬مسار‭ ‬جانبي،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬طريق‭ ‬السيارات،‭ ‬لمن‭ ‬يرغب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬مشياً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬إلى‭ ‬مليتا،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬المجاهدون‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬مليتا‭ ‬موقعاً‭ ‬متقدماً‭ ‬للمقاومة‭. ‬
وكان‭ ‬دائماً‭ ‬يقول‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يُؤرخ‭ ‬للمقاومة،‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬رسول‭ ‬الله(ص)‭ :
أي منذ منشئها الأول، في فكرتها، ومنهجيتها، وكما كان يقول:
‭ - ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬طلقة‭ ‬في‭ ‬الهواء‭.. ‬أنها‭ ‬مشروع‭ ‬تأسس‭ ‬منذ‭ ‬النبي‭ ‬آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭. ‬
لا‭ ‬يريد‭ ‬للناس‭ ‬أن‭ ‬تفصل‭ ‬المقاومة‭ ‬عن‭ ‬جذورها،‭ ‬كان‭ ‬يقول‭:‬ ‭ - ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نربط‭ ‬الناس‭ ‬بالأصل‭.. ‬في‭ ‬ايران‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬منفذ‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭.. ‬حتى‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬المقاومة‭ ‬القائمة‭ ‬اليوم‭.. ‬هناك‭ ‬امتداد،‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬النشأة‭ ‬والمنشأ‭.. ‬إنه‭ ‬الإيمان‭.. ‬إسلام‭ ‬النبي‭ ‬محمد(ص)‭ ‬وإسلام‭ ‬الإمام‭ ‬علي(ع) وكربلاء‭.. ‬
أراد‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مليتا،‭ ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬بارز،‭ ‬ليقرأه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يدخل‭ ‬إلى‭ ‬مليتا،‭ ‬ويقول‭:‬ ‭ - ‬لو‭ ‬فهم‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬بعدها‭ ‬أحد‭ ‬إلى‭ ‬مناقشة‭ ‬جدوى‭ ‬المقاومة‭.‬
كثيراً‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تؤثر‭ ‬فينا‭ ‬تلك‭ ‬الجوانب‭ ‬المضيئة‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬المهندس‭ ‬حسام،‭ ‬وجوده‭ ‬معنا‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬أعاد‭ ‬إلينا‭ ‬صورة‭ ‬جميلة‭ ‬جداً،‭ ‬صورة‭ ‬عشقناها‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬للثورة‭ ‬،‭ ‬عن‭ ‬قائدها‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني (‬قده)‬،‭ ‬الإمام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقول‭:‬
‭ - ‬أُفضّل‭ ‬أن‭ ‬تقولوا‭ ‬لي‭ ‬مئة‭ ‬مرة‭ ‬خادم،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تقولوا‭ ‬لي‭ ‬قائد‭.‬
طوال‭ ‬حياتي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬ذهني‭ ‬صورة‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني (قده) ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬صينية‭ ‬الشاي‭. ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬رأيت‭ ‬فيها‭ ‬الحاج‭ ‬حسام،‭ ‬كانت‭ ‬تسقط‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬بوضوح‭ ‬شديد،‭ ‬كان‭ ‬الشهيد‭ ‬حسام‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة،‭ ‬مثالاً‭ ‬حياً‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬نظري‭. ‬
المهندس‭ ‬حسام،‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬العزيز،‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أراه‭ ‬بملابس‭ ‬العمل،‭ ‬يعمل‭ ‬بنفسه‭ ‬كأي‭ ‬عامل،‭ ‬يتصبب‭ ‬منه‭ ‬العرق،‭ ‬ويتعب‭ ‬جسده‭. ‬تلك‭ ‬طريقته‭ ‬في‭ ‬معاملته‭ ‬لنفسه،‭ ‬لن‭ ‬أبالغ‭ ‬إن‭ ‬قلت‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬أكثرنا‭ ‬عملاً،‭ ‬وأقلنا‭ ‬راحة،‭ ‬كانت‭ ‬السيارة‭ ‬هي‭ ‬منـزله‭ ‬وفراشه،‭ ‬غرفة‭ ‬ملابسه‭ ‬وغرفة‭ ‬طعامه‭. ‬
إنسان‭ ‬عاش‭ ‬بهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مثالاً؟
ولم‭ ‬يكن‭ ‬تواضعه‭ ‬وايمانه‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬لطالما‭ ‬ردد‭ ‬أمامنا‭ ‬بكل‭ ‬تواضعه: (‬أنا‭ ‬خادمكم). ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬فيه‭ ‬سوى‭ ‬صورة‭ ‬الإمام‭ ‬الخميني (قده). ‬ كان‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬يأكل،‭ ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬يأتي‭ ‬إلى‭ ‬مليتا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليقبل‭ ‬أن‭ ‬يأكل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتأكد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الأخوة‭ ‬في‭ ‬مليتا‭ ‬قد‭ ‬تناولوا‭ ‬طعامهم،‭ ‬يتابعهم‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬الشيخ‭ ‬راغب‭ ‬حرب‭) ‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬عليه)‬‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يرعى‭ ‬الايتام‭ ‬في‭ ‬المبرة،‭ ‬وكما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬السيد‭ ‬عباس‭ ‬الموسوي (‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬عليه)‬‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يطعم‭ ‬الاخوة‭ ‬المجاهدين‭ ‬في‭ ‬محاور‭ ‬القتال‭.‬
كان‭ ‬ينام‭ ‬آخر‭ ‬شخص،‭ ‬ويأكل‭ ‬آخر‭ ‬شخص،‭ ‬ويحمل‭ ‬المتاع‭ ‬بيده،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬البيوت‭ ‬وزار‭ ‬الناس‭ ‬وتقرًّب‭ ‬إليهم‭. ‬هو‭ ‬من‭ ‬بحث‭ ‬عنا‭ ‬وخدمنا‭ ‬وكنا‭ ‬نخجل‭ ‬من‭ ‬مبادراته‭. ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬امتاز‭ ‬بأمور‭ ‬لم‭ ‬أدركها‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬رحل،‭ ‬كان‭ ‬يخفف‭ ‬من‭ ‬أثقاله‭ ‬لأنه‭ ‬استعجل‭ ‬الرحيل‭. ‬تعززت‭ ‬الصورة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوراني‭ ‬مكانه‭ ‬ليس‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬