img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

المقامات‭ ‬المباركة


طوال‭ ‬فترة‭ ‬تواجدنا‭ ‬مع‭ ‬المهندس‭ ‬حسام،‭ ‬كنا‭ ‬نرى‭ ‬هذا‭ ‬الرابط‭ ‬القوي‭ ‬الذي‭ ‬يربطه‭ ‬بالمقامات‭ ‬الشريفة،‭ ‬كلما‭ ‬مرّ‭ ‬بجانب‭ ‬مقام‭ ‬لنبي‭ ‬أو‭ ‬وليِّ‭ ‬نزل‭ ‬عنده،‭ ‬وكأن‭ ‬روحه‭ ‬لا‭ ‬تهدأ‭ ‬إلا‭ ‬هناك،‭ ‬يدخل‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المقامات‭ ‬وفور‭ ‬دخوله‭ ‬يتأثر‭ ‬بحالة‭ ‬روحانية‭ ‬خاصة‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الوقت‭ ‬ضيقاً،‭ ‬اكتفى‭ ‬بالدعاء‭ ‬والصلاة‭ ‬ركعتين،‭ ‬ثم‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬آسفاً‭ ‬مرغماً‭ ‬كمن‭ ‬يغادر‭ ‬وطنه‭.‬
لم‭ ‬يبق‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬المباركة‭ ‬لم‭ ‬يزره‭ ‬المهندس‭ ‬حسام،‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬عبر‭ ‬الخرائط،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬السؤال‭ ‬عنها،‭ ‬والمتابعة‭ ‬الدقيقة‭ ‬لدى‭ ‬سماعه‭ ‬أية‭ ‬معلومة‭ ‬يقولها‭ ‬الناس‭ ‬عنها،‭ ‬كان‭ ‬يواظب‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬الأولياء‭ ‬والصّالحين،‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬معلومة‭ ‬تنبئ‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬يحتمل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قبراً‭ ‬لأحد‭ ‬الصالحين‭ ‬أو‭ ‬مقاماً‭ ‬لهم‭ ‬تكفيه،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بطريقة‭ ‬مثبتة‭ ‬أم‭ ‬غير‭ ‬مثبتة،‭ ‬لذا‭ ‬كنا‭ ‬نجده‭ ‬سباقا‭ ‬لنيل‭ ‬البركة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن،‭ ‬فهو‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الاعمال‭ ‬تكون‭ ‬بنياتها،‭ ‬وربه‭ ‬أعلم‭ ‬بمقصده‭. ‬
كنا‭ ‬إذا‭ ‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬زيارة‭ ‬المقامات،‭ ‬ومنها‭ ‬مقام‭ ‬السيدة‭ ‬رقية،‭ ‬نزور‭ ‬ونقوم‭ ‬بالأعمال‭ ‬المفترضة،‭ ‬ونرمقه‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر‭ ‬منتظرين‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬من‭ ‬زيارته‭ ‬وتعبده،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬كنا‭ ‬نطيل‭ ‬البقاء‭ ‬حتى‭ ‬ينفذ‭ ‬صبرنا،‭ ‬ونلجأ‭ ‬إلى‭ ‬التدخل،‭ ‬فلا‭ ‬ينقطع‭ ‬انشغاله‭ ‬بالتعبد‭ ‬حتى‭ ‬نقول‭ ‬له‭:‬
‭ - ‬يا‭ ‬حج‭ ‬حسام‭ ‬لازم‭ ‬نمشي‭ ‬تأخرنا‭.‬
ومن‭ ‬أدبه،‭ ‬وحسن‭ ‬خلقه،‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليسبب‭ ‬أي‭ ‬ازعاج‭ ‬لمن‭ ‬معه،‭ ‬ونشعر‭ ‬أنه‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬طلبنا‭ ‬إليه‭ ‬ذلك‭ ‬لبقي‭ ‬هناك‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭.‬
في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬قبل‭ ‬استشهاده،‭ ‬كان‭ ‬الوضع‭ ‬الأمني‭ ‬متوتراَ‭ ‬للغاية،‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬سوريا‭ ‬لأصحبه‭ ‬من‭ ‬المطار،‭ ‬كي‭ ‬نتوجه‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬بأسرع‭ ‬وقت‭ ‬ممكن،‭ ‬لكنه‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬على‭ ‬مقام‭ ‬السيدة‭ ‬زينب(ع)،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة،‭ ‬وبالطبع،‭ ‬كانت‭ ‬ردة‭ ‬فعلي‭ ‬على‭ ‬طلبه‭ ‬أن‭ ‬اعترضت‭ ‬بشدة،‭ ‬لكنه‭ ‬أصرّ‭ ‬جازماً‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬المغادرة‭ ‬قبل‭ ‬زيارة‭ ‬مولاتنا‭ ‬السيدة‭ ‬زينب(ع)،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭:‬
‭ - ‬مستحيل‭ ‬أن‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الطريق،‭ ‬ولا‭ ‬أمر‭ ‬لأسلمّ‭ ‬عليها‭.. ‬مستحيل‭!‬
والملفت‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يمض‭ ‬على‭ ‬زيارته‭ ‬الأخيرة‭ ‬للمقام‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭. ‬لكنه‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الشام‭ ‬دون‭ ‬المرور‭ ‬على‭ ‬مقام‭ ‬السيدة‭ ‬وزيارتها‭ ‬أمر‭ ‬شاذ،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬كالذنب‭ ‬العظيم‭. ‬ومعرفتي‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬مرتاحاً‭ ‬أبداً‭ ‬لو‭ ‬ذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬دون‭ ‬زيارتها‭ ‬جعلتني‭ ‬أرضخ‭ ‬لطلبه،‭ ‬وأنا‭ ‬أدعو‭ ‬الله‭ ‬بالحفظ‭ ‬والتيسير،‭ ‬وفي‭ ‬الطريق‭ ‬صادفنا‭ ‬أحد‭ ‬الحواجز‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬أمامنا‭ ‬بشكل‭ ‬مباغت،‭ ‬ولكنه‭ ‬ولحسن‭ ‬الحظ‭ ‬كان‭ ‬حاجزا‭ ‬للجيش‭ ‬السوري‭. ‬كنا‭ ‬نسير‭ ‬بحذر‭ ‬شديد،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬هنالك‭ ‬طريق‭ ‬مضمون‭ ‬بالأمان،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬ليشكل‭ ‬فرقاً‭ ‬لدى‭ ‬المهندس‭ ‬حسام،‭ ‬همه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يقصّر‭ ‬مع‭ ‬مولاته‭ ‬زينب‭ ‬الكبرى(ع)،‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬قريبا‭ ‬منها‭ ‬ولا‭ ‬يزورها‭.‬
وأذكر‭ ‬جيدا‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬المقام،‭ ‬ورآه‭ ‬مغلقاً،‭ ‬لم‭ ‬ييأس،‭ ‬إنما‭ ‬توجه‭ ‬إلى‭ ‬الشخص‭ ‬المعني‭ ‬بالحراسة‭ ‬هناك،‭ ‬ليسمح‭ ‬له‭ ‬بالدخول،‭ ‬توسل‭ ‬إليه‭ ‬كثيراً‭ ‬ليفتح‭ ‬لنا‭ ‬الباب،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬عنده‭ ‬مشكلة‭ ‬أن‭ ‬يتوسل‭ ‬طويلاً‭ ‬ويرجوه،‭ ‬حالة‭ ‬الاذلال‭ ‬التي‭ ‬وضع‭ ‬نفسه‭ ‬بها‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تهمه،‭ ‬فنفسه‭ ‬ليست‭ ‬أعز‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬لمولاته،‭ ‬وكان‭ ‬لابد‭ ‬للحارس‭ ‬أمام‭ ‬لهفة‭ ‬المهندس‭ ‬ان‭ ‬يفتح‭ ‬له‭ ‬الباب،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬فتح‭ ‬الحارس‭ ‬الباب‭ ‬حتى‭ ‬دخل‭ ‬المهندس‭ ‬باكياً،‭ ‬راكعاً‭ ‬عند‭ ‬عتبة‭ ‬الضريح،‭ ‬يمسح‭ ‬خدّيه‭ ‬ودموعه‭ ‬بأرض‭ ‬مدخلها،‭ ‬وعلى‭ ‬الباب‭ ‬وقف‭ ‬طويلاً‭ ‬وقد‭ ‬أسند‭ ‬جبهته‭ ‬إليه،‭ ‬كان‭ ‬جسده‭ ‬يهتز‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬البكاء،‭ ‬ثم‭ ‬مشى‭ ‬إلى‭ ‬ضريحها‭ ‬كالعليل،‭ ‬خاشعاً‭ ‬كالمتردد‭ ‬في‭ ‬خطاه،‭ ‬كالمتقدم‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬ملكة‭ ‬عظيمة‭ ‬الهيبة‭ ‬والسلطان،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬وصل‭ ‬عندها‭ ‬جلس‭ ‬ممسكاً‭ ‬بحلقات‭ ‬الضريح،‭ ‬متوسلاً‭ ‬باكياً‭ ‬يرجو‭ ‬شفاعتها‭.‬
لا‭ ‬يمكنني‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬المهندس‭ ‬وهو‭ ‬يزور‭ ‬السيدة‭ ‬زينب(ع)،‭ ‬فعلاقته‭ ‬بالسيدة‭ ‬زينب‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬معنى‭ ‬خاص،‭ ‬كان‭ ‬يترك‭ ‬لنفسه‭ ‬العنان‭ ‬في‭ ‬المقام،‭ ‬لا‭ ‬يبالي‭ ‬بمن‭ ‬حوله،‭ ‬كأنه‭ ‬ينسى،‭ ‬أو‭ ‬يغيب،‭ ‬فلا‭ ‬يعود‭ ‬يرى‭ ‬أحداً،‭ ‬كأنه‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬مع‭ ‬مولاته‭ ‬زينب،‭ ‬يجهش‭ ‬بالبكاء،‭ ‬يصرخ،‭ ‬أو‭ ‬يعبر‭ ‬بطرق‭ ‬وجدانية‭. ‬وإذا‭ ‬غرق‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الزيارة‭ ‬والدعاء‭ ‬أبكانا‭ ‬جميعاً‭. ‬