img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

حديقة‭ ‬عيترون


لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬بإعادة‭ ‬إعمار‭ ‬ما‭ ‬دمّرته‭ ‬الحرب،‭ ‬بل‭ ‬تعدى‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬كأنه‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يشكر‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬من‭ ‬عطايا،‭ ‬أن‭ ‬يشكرها‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصة‭ ‬على‭ ‬صمودها‭ ‬واحتضانها‭ ‬للمقاومة،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يشاركها‭ ‬في‭ ‬المقاومة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يتجه‭ ‬بأفكاره‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬الحدود،‭ ‬وينشئ‭ ‬فيها‭ ‬الحدائق،‭ ‬لتكون‭ ‬كالأوسمة‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬هذه‭ ‬الارض‭ ‬التي‭ ‬أحبها،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يحول‭ ‬الجمال‭ ‬إلى‭ ‬فعل‭ ‬مقاوم،‭ ‬جمال‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬إذلال‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وينشر‭ ‬ثقافة‭ ‬المقاومة‭. ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬صار‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أقرب‭ ‬الأماكن‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬الشرط‭ ‬الحدودي‭ ‬ليقيم‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬بالسياحة‭ ‬المقاومة‭.‬
كلما‭ ‬شاهد‭ ‬مكاناً‭ ‬مشرفاً‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬توقف‭ ‬عنده‭ ‬وفكر‭ ‬فيه،‭ ‬وكلما‭ ‬كان‭ ‬المكان‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬كلما‭ ‬زاده‭ ‬حماسا‭ ‬ورغبة‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬حديقة‭ ‬عليه‭. ‬
وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬فقد‭ ‬حدّد‭ ‬موقعاً‭ ‬لإنشاء‭ ‬حديقة‭ ‬في‭ ‬خراج‭ ‬قرية‭ "‬عيترون‭"‬،‭ ‬موقعاً‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المواقع‭ ‬تقدماً،‭ ‬وأقربها‭ ‬للشريط‭ ‬الحدودي،‭ ‬وأكثر‭ ‬تلك‭ ‬المواقع‭ ‬خطراً،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬ينشئ‭ ‬حديقة‭ ‬لا‭ ‬تبعد‭ ‬سوى‭ ‬خمسين‭ ‬مترا‭ ‬عن‭ ‬القوات‭ ‬الاسرائيلية‭ ‬المرابطة‭ ‬على‭ ‬الحدود،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬موقع‭ "‬الباط‭"‬،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬نقطة‭ ‬انسحب‭ ‬منها‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭. ‬ عندما‭ ‬كنت‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬هناك،‭ ‬كنت‭ ‬أمشي‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬4‭ ‬أو‭ ‬5‭ ‬كلم‭ ‬سيراً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬بين‭ ‬الأحراج‭ ‬والشجر‭ ‬حتى‭ ‬أصل‭ ‬اليها،‭ ‬هو‭ ‬لم‭ ‬يشعر‭ ‬بالتعب،‭ ‬حماسه‭ ‬وسعادته‭ ‬كانت‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬التعب‭.‬
كنت‭ ‬أقول‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬غمرة‭ ‬تعبنا‭: ‬ ‭ - ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬خطير،‭ ‬ولا‭ ‬يصلح‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬حديقة،‭ ‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬سيارتي‭ ‬معروفة‭ ‬كلما‭ ‬تمر‭ ‬من‭ ‬بنت‭ ‬جبيل‭ ‬إلى‭ ‬عيترون‭ ‬يطلع‭ ‬ال‭ "‬م‭ ‬ك‭" ‬والمروحي‭ ‬والدبابات‭ ‬تستنفر‭ ‬على‭ ‬الحدود‭.. ‬والله‭ ‬أنا‭ ‬حاسس‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬حرب‭ ‬أول‭ ‬ضربة‭ ‬رح‭ ‬تطلع‭ ‬فيي‭.‬
فيجيبني‭ ‬ضاحكاً‭: ‬ ‭ - ‬ما‭ ‬مشكل‭ ‬مهندس‭ ‬أنت‭ ‬شهيد‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭.‬
‭ - ‬طيب‭ ‬أنا‭ ‬شهيد‭ ‬هكذا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقاومة‭.‬
‭ - ‬كيف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقاومة؟‭ ‬هذه‭ ‬حديقة‭ ‬ايران،‭ ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬عمل‭ ‬مقاوم،‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تحمل‭ ‬بارودة؟‭. ‬وعندما‭ ‬تضربك‭ ‬إسرائيل‭ ‬فإنها‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تخوّف‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يأتون‭ ‬إلى‭ ‬الحديقة،‭ ‬وانت‭ ‬لا‭ ‬تخاف،‭ ‬فما‭ ‬مشكلة،‭ ‬أنت‭ ‬شهيد‭. ‬
جرفنا‭ ‬حوالي‭ "‬20‭ ‬دونماً‭" ‬وزرعنا‭ ‬شجراً‭ ‬وأنشأنا‭ ‬خزان‭ ‬مياه‭. ‬ثم‭ ‬توقفنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لصعوبة‭ ‬الوصول،‭ ‬ووعورة‭ ‬الطريق،‭ ‬ولخطورة‭ ‬الموقع،‭ ‬ومكانه‭ ‬العسكري‭ ‬الحساس،‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬مقصداً‭ ‬لقوات‭ ‬الطوارئ،‭ ‬حتى‭ ‬أننا‭ ‬لو‭ ‬عبَّدنا‭ ‬الطريق‭ ‬إليه‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتبقى‭ ‬طويلاً،‭ ‬لأن‭ ‬آليات‭ ‬الطوارئ‭ ‬المجنزرة‭ ‬لن‭ ‬تبقي‭ ‬الطريق‭ ‬صالحة‭. ‬إضافة‭ ‬للدواعي‭ ‬الأمنية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استثناؤها‭.‬
تعددت‭ ‬الاسباب‭ ‬التي‭ ‬منعت‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬سياحة‭ ‬مقاومة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬التخوم،‭ ‬لكنه‭ ‬جمَّل‭ ‬المكان‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬،‭ ‬بجرف‭ ‬الصخور،‭ ‬وبالشجر،‭ ‬والماء،‭ ‬وتركها‭ ‬في‭ ‬عهدة‭ ‬بلدية‭ ‬عيترون،‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تهتم‭ ‬بالشجر،‭ ‬وأنشأت‭ ‬شبكة‭ ‬مياه‭ ‬لري‭ ‬تلك‭ ‬الأشجار‭ ‬التي‭ ‬زرعها‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭. ‬