img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

ليست‭ ‬سوى‭ ‬حشرة


في‭ ‬اللقاء‭ ‬الثاني‭ ‬تكشفت‭ ‬لي‭ ‬شخصية‭ ‬جديدة‭ ‬مختلفة‭ ‬للمهندس‭ ‬حسام،‭ ‬صورة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬صورة‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول،‭ ‬لقد‭ ‬تبدد‭ ‬تماماً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬امتعاض،‭ ‬بسبب‭ ‬التأخير‭.‬
بدا‭ ‬فرحاً‭ ‬وهو‭ ‬يزور‭ ‬الموقع،‭ ‬عندما‭ ‬رأى‭ ‬أنّ‭ ‬العمل‭ ‬قد‭ ‬بدأ،‭ ‬زال‭ ‬كل‭ ‬توتره‭ ‬وهو‭ ‬يتحرك‭ ‬بحماس‭ ‬وسعادة،‭ ‬حماسه‭ ‬هذا‭ ‬جعل‭ ‬النشاط‭ ‬يدبّ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الموقع‭.‬
يتحرك‭ ‬مع‭ ‬العاملين،‭ ‬يوجه‭ ‬هذا،‭ ‬ويشجع‭ ‬ذاك،‭ ‬ويمد‭ ‬يده‭ ‬بالمشاركة‭ ‬بابتسامةٍ‭ ‬فريدة،‭ ‬وخلقٍ‭ ‬رفيع،‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬تفاصيل‭ ‬العمل،‭ ‬ويتحرك‭ ‬بنفسه،‭ ‬كان‭ ‬يمشي‭ ‬أمام‭ ‬الجرافة،‭ ‬وفوق‭ ‬الحجارة‭ ‬في‭ ‬حماس‭ ‬متدفق،‭ ‬وأنا‭ ‬أنظر‭ ‬مبهوراً‭ ‬مِنْ‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬أراه‭ ‬فيه‭! ‬خائفاً‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الأذى‭. ‬أركض‭ ‬خلفه‭ ‬صارخاً‭: ‬“يا‭ ‬مهندس‭ ‬انتبه‭ ‬من‭ ‬الجرافة”‭.‬
فيتابع‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬توجيهنا‭ ‬وهو‭ ‬يحرك‭ ‬يده‭ ‬قائلاً‭: ‬ ‭ - ‬ما‭ ‬مشكل،‭ ‬مهندس،‭ ‬ما‭ ‬مشكل‭.‬
حركته‭ ‬ونشاطه‭ ‬جعل‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الموقع‭ ‬يتضاعف،‭ ‬وتزداد‭ ‬وتيرته‭. ‬
وبدأت‭ ‬الأجواء‭ ‬حولنا‭ ‬تتوتر‭ ‬نتيجة‭ ‬هذا‭ ‬النشاط‭ ‬الذي‭ ‬أثار‭ ‬ريبة‭ ‬القوات‭ ‬الدولية‭ ‬وقوات‭ ‬الاحتلال،‭ ‬ووصلت‭ ‬إلى‭ ‬الموقع‭ ‬دبابات‭ ‬قوات‭ ‬الطوارئ‭ ‬وآليّاتها،‭ ‬وحلّقت‭ ‬طائرات‭ ‬الاستطلاع‭ ‬الإسرائيليّة،‭ ‬تبعها‭ ‬طائرة‭ ‬مروحية،‭ ‬وتأهب‭ ‬الجنود‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬المقابلة‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الحديقة،‭ ‬واستنفر‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وجابوا‭ ‬بجيبات‭ ‬“الهامر”‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬الممتدّ‭ ‬أمام‭ ‬موقع‭ ‬الحديقة،‭ ‬حتى‭ ‬شعرنا‭ ‬أننا‭ ‬داخل‭ ‬معسكر‭ ‬يتأهب‭ ‬للحرب‭.‬
شعر‭ ‬الجميع‭ ‬بالخوف،‭ ‬لكنّ‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬كان‭ ‬يكمل‭ ‬عمله‭ ‬وكأنه‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬حوله‭! ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يفتح‭ ‬الخرائط‭ ‬ويرى‭ ‬التصاميم،‭ ‬وأنا‭ ‬أقول‭ ‬له‭: ‬“أنظر‭ ‬حولنا‭ ‬يا‭ ‬مهندس،‭ ‬ألا‭ ‬ترى‭ ‬هذا‭ ‬الاستنفار‭ ‬الكبير؟”‭. ‬يقول‭ ‬وهو‭ ‬يفتح‭ ‬الخرائط‭: ‬“ما‭ ‬مشكل‭.. ‬ما‭ ‬مشكل‭.‬”
لم‭ ‬يبدُ‭ ‬عليه‭ ‬أي‭ ‬خوف،‭ ‬لم‭ ‬يتأثر،‭ ‬كأن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬لا‭ ‬يعنيه،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬الطائرة‭ ‬المروحية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحوم‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسنا،‭ ‬وكأن‭ ‬تلك‭ ‬الطائرة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬حشرة‭ ‬صغيرة‭!‬
أنظرُ‭ ‬إليه‭ ‬ونحن‭ ‬نجلس‭ ‬على‭ ‬الحجارة،‭ ‬وهو‭ ‬يدقّق‭ ‬في‭ ‬الخرائط،‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬أيّ‭ ‬أثر‭ ‬للخوف‭ ‬أو‭ ‬الانزعاج،‭ ‬أو‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬الارتباك‭. ‬أحدّق‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬وفي‭ ‬ملامح‭ ‬وجهه،‭ ‬فلا‭ ‬أرى‭ ‬شيئاً‭ ‬سوى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬يديه،‭ ‬فأقول‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬حقا”‭ ‬إنّها‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬ذبابة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه،‭ ‬هذه‭ ‬الطائرة‭ ‬المروحية‭!‬