img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

كانت‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة


كلما‭ ‬أردتُ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الشهيد‭ ‬العظيم‭ ‬يستوقفني‭ ‬سؤالٌ‭ ‬يصعبٌ‭ ‬علي‭ ‬إغفاله‭..‬
إنّه‭ ‬أبي‭.. ‬هل‭ ‬أستطيع‭ ‬التّحدّث‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬تلك‭ ‬الدّائرة؟‭ ‬هل‭ ‬أستطيع‭ ‬التّحدّث‭ ‬عنه‭ ‬كما‭ ‬يتحدّث‭ ‬عنه‭ ‬أي‭ ‬شخصٍ‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬معه‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬السّنين؟‭ ‬أن‭ ‬أخرج‭ ‬من‭ ‬صفة‭ ‬كوني‭ ‬أحد‭ ‬أبنائه؟‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬سبيلٍ‭ ‬إلى‭ ‬ذلك؟‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬ممكن؟‭ ‬وإن‭ ‬استطعتُ‭ ‬أن‭ ‬أتجرّد‭ ‬منها‭ ‬عند‭ ‬الكتابة،‭ ‬هل‭ ‬يستطيع‭ ‬القارئ‭ ‬ذلك؟
حين‭ ‬يقرأ‭ ‬القارئ‭ ‬اسمي‭ ‬يستحضر‭ ‬مباشرة‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة،‭ ‬فهذا‭ ‬ابن‭ ‬يتحدّث‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭.. ‬لا‭ ‬مهرب‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الصّفة،‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬المشكلة،‭ ‬فهذه‭ ‬الصّفة‭ ‬تستدعي‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يلازمها‭ ‬من‭ ‬صورٍ‭ ‬وذكريات،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مألوفٌ‭ ‬ومعتاد‭. ‬فحين‭ ‬بتحدّث‭ ‬الابن‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭ ‬يتّكئ‭ ‬على‭ ‬صورٍ‭ ‬وذكريات‭ ‬عمادها‭ ‬الطّفولة‭ ‬والنّشأة‭ ‬الأولى،‭ ‬لتكون‭ ‬هي‭ ‬الأساس‭ ‬الذّي‭ ‬يبنى‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬تلك‭ ‬المشاعر‭ ‬التّي‭ ‬تتجمّع‭ ‬عنصراً‭ ‬فوق‭ ‬عنصر،‭ ‬لتشكّل‭ ‬معالم‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬الفريدة‭. ‬فالأبوّة‭ ‬حالةٌ‭ ‬مستقلّة‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬سواها،‭ ‬وهي‭ ‬بلا‭ ‬شكّ‭ ‬عند‭ ‬الأبناء‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬القديم،‭ ‬من‭ ‬صورٍ‭ ‬وذكريات‭ ‬وما‭ ‬تصحبها‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭.‬
كيف‭ ‬سأتحدّث‭ ‬وأنا‭ ‬كلّما‭ ‬عدتُ‭ ‬إلى‭ ‬ذكرياتي‭ ‬القديمة‭ ‬أستجدي‭ ‬منها‭ ‬صور‭ ‬الابن‭ ‬ومشاعره‭ ‬وجدتها‭ ‬غائمةً‭ ‬ومبهمة؟‭ ‬أشباح‭ ‬الصّور‭ ‬ضبابية‭ ‬الملامح،‭ ‬تحيطها‭ ‬مشاعر‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الاستقرار‭ ‬ولا‭ ‬الوضوح‭. ‬صورٌ‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬خاوية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الذّي‭ ‬يسمّى‭ ‬أبوّة،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬امتدّ‭ ‬هذا‭ ‬الخواء‭ ‬إلى‭ ‬سنيَّ‭ ‬مراهقتي‭ ‬الأولى‭.‬ لا‭ ‬أجد‭ ‬مكان‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬إلا‭ ‬صورة‭ ‬ضيف،‭ ‬ضيف‭ ‬جميل‭ ‬الطّيف،‭ ‬حسن‭ ‬المعشر،‭ ‬خفيف‭ ‬الظّلّ،‭ ‬قويّ‭ ‬الحضور،‭ ‬محبوباً،‭ ‬ولكنّه‭ ‬ضيفٌ‭ ‬قليل‭ ‬المكوث،‭ ‬ولم‭ ‬يتعمّق‭ ‬حضوره،‭ ‬وما‭ ‬أحاطت‭ ‬به‭ ‬مشاعر‭ ‬الابن‭..‬
أذكر‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬القليل‭ ‬جميلاً،‭ ‬وأذكر‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬يسعدنا‭ ‬حضوره‭. ‬كنتُ‭ ‬أرى‭ ‬حبّه‭ ‬الفائض‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬القليل،‭ ‬أراه‭ ‬عميقا،ً‭ ‬ومؤثّراً،‭ ‬وشديد‭ ‬الوضوح،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الجالس‭ ‬في‭ ‬الظلمة‭ ‬ضوء‭ ‬البرق،‭ ‬قوياً،‭ ‬واضحاً،‭ ‬شاملاً،‭ ‬لكنّه‭ ‬سريع‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬فيه‭ ‬العيون‭ ‬الصّغيرة‭ ‬كلّ‭ ‬تفاصيل‭ ‬الأبوّة‭ ‬ومشاعرها،‭ ‬فهي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬استدامة‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬لتترسّخ،‭ ‬لتكون‭ ‬معرفة‭ ‬ثابتة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬البقاء‭.‬
لقد‭ ‬كان‭ ‬أباً‭ ‬كثير‭ ‬السّفر،‭ ‬وفي‭ ‬غيابٍ‭ ‬طويلٍ‭ ‬ومتكرّر،‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬بلدٍ‭ ‬إلى‭ ‬بلد،‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬أفغانستان،‭ ‬إلى‭ ‬دولٍ‭ ‬وبلدانٍ‭ ‬مجهولةٍ،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مدنٍ‭ ‬ايرانية‭ ‬بعيدة‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرفها‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬عمله،‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬مهامه،‭ ‬وهو‭ ‬النّاشط‭ ‬الذّي‭ ‬يُعتمد‭ ‬عليه‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬وهو‭ ‬بعدُ‭ ‬حديث‭ ‬العهد‭ ‬في‭ ‬الرّجولة‭. ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬قبل‭ ‬ولادتي،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬كانت‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬زواجه،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تقوله‭ ‬أمي‭.‬
كانت‭ ‬أمّي‭ ‬وحيدة‭ ‬أمّها،‭ ‬لقد‭ ‬توفّي‭ ‬جدّي‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬صغيرة،‭ ‬فتاةً‭ ‬مؤمنةً‭ ‬طاهرةً‭ ‬على‭ ‬صغر‭ ‬سنها،‭ ‬أحبّت‭ ‬الثورة‭ ‬ورجالها،‭ ‬تلك‭ ‬المشاعر‭ ‬المبكرة‭ ‬كانت‭ ‬عميقة‭ ‬لديها‭ ‬لدرجة‭ ‬أنّها‭ ‬قرّرت‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تتزوّج‭ ‬الا‭ ‬رجلاً‭ ‬مجاهداً‭. ‬وكان‭ ‬أبي‭ ‬واحداً‭ ‬منهم،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬تخرّج‭ ‬حديثاً‭ ‬من‭ ‬الثّانويّة‭ ‬العامّة‭) ‬الباكالوريا)، ‬وأستعدّ‭ ‬لدخول‭ ‬الجامعة‭. ‬وافقت‭ ‬على‭ ‬الزّواج‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬سعيدة‭ ‬بتحقيق‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬الزّواج‭ ‬من‭ ‬مجاهد‭.‬
كانا‭ ‬عروسين‭ ‬حين‭ ‬بدأت‭ ‬الحرب،‭ ‬وفور‭ ‬زواجهما‭ ‬اضطرّ‭ ‬أبي‭ ‬للسّفر‭ ‬إلى‭ ‬كردستان،‭ ‬وأخذ‭ ‬عروسه‭ ‬معه،‭ ‬وكانت‭ ‬منطقة‭ ‬كردستان‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الحرب‭ ‬تحت‭ ‬الحصار‭ ‬الشّديد،‭ ‬فاضطرّا‭ ‬حينها‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬إقامتهما‭ ‬بواسطة‭ ‬طوّافة‭ ‬عسكرية‭. ‬ثم‭ ‬تركها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وحيدة‭ ‬هناك‭ ‬لمدّة‭ ‬شهرين،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬العمر‭.‬ تلك‭ ‬كانت‭ ‬البداية،‭ ‬ما‭ ‬ندمت‭ ‬أمّي‭ ‬أبداً،‭ ‬كما‭ ‬تقول،‭ ‬بل‭ ‬ازدادت‭ ‬حباً‭ ‬وتعلّقاً،‭ ‬كما‭ ‬ازدادت‭ ‬عطاءاً‭ ‬وتضحية‭. ‬لقد‭ ‬تولّت‭ ‬ملء‭ ‬كل‭ ‬نقصٍ‭ ‬يسبّبه‭ ‬غيابه،‭ ‬وقامت‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬يلزم‭ ‬دون‭ ‬تقصيرٍ‭ ‬أو‭ ‬تأفّف،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يعتمد‭ ‬عليها‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬اعتماداً‭ ‬كاملاً،‭ ‬ليستطيع‭ ‬تكريس‭ ‬حياته‭ ‬التي‭ ‬نذرها‭ ‬لله‭. ‬
لقد‭ ‬لازم‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬حياتهما‭ ‬الزوجية‭ ‬كما‭ ‬لازمها‭ ‬غياب‭ ‬الزّوج،‭ ‬لقد‭ ‬تنقّلنا‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬عديدة‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬حصرها،‭ ‬فنحن‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نكاد‭ ‬نستقرّ‭ ‬في‭ ‬مكان‭. ‬وأذكر‭ ‬أنّني‭ ‬عدتُ‭ ‬يوماً‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬حاملاً‭ ‬حقيبتي،‭ ‬فوجدتُ‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬المنزل‭ ‬شاحنةً،‭ ‬وعمّالاً‭ ‬وهم‭ ‬ينقلون‭ ‬أثاث‭ ‬منزلنا‭ ‬إلى‭ ‬الشاحنة،‭ ‬لننتقل‭ ‬فجأة،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬سابق‭ ‬إنذار‭ ‬إلى‭ ‬منزلٍ‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬منطقةٍ‭ ‬أخرى‭. ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬حياة‭ ‬والدتي‭ ‬قبل‭ ‬مجيئنا،‭ ‬وظلّت‭ ‬كذلك‭ ‬بعده،‭ ‬في‭ ‬حلٍّ‭ ‬وترحال‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬السّنين‭. ‬وبالرّغم‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬أبي‭ ‬الطّويل‭ ‬والمتكرّر،‭ ‬لم‭ ‬تعترض‭ ‬أمّي‭ ‬على‭ ‬قراره‭ ‬يوماً،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬تشجّعه‭ ‬وابتسامة‭ ‬الرّضا‭ ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬وجهها‭.‬
‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬نعم‭ ‬المعين،‭ ‬وهو‭ ‬الذّي‭ ‬يتحدّث‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬دائماً،‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬مناسبةً‭ ‬إلا‭ ‬وعبّر‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬امتنانه‭ ‬وحبّه،‭ ‬حين‭ ‬يأتي‭ ‬يشملها‭ ‬بعطفٍ‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له،‭ ‬يعاملها‭ ‬باحترامٍ‭ ‬بالغ،‭ ‬فهو‭ ‬طوال‭ ‬وجوده‭ ‬يدللها،‭ ‬وكنتُ‭ ‬أراه‭ ‬كمن‭ ‬يحار‭ ‬بأي‭ ‬طريقةٍ‭ ‬يعاملها،‭ ‬كان‭ ‬يقبّل‭ ‬يدها‭ ‬حين‭ ‬يطلب‭ ‬منها‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬ولا‭ ‬يتوانى‭ ‬عن‭ ‬إظهار‭ ‬امتنانه‭ ‬وشكره‭ ‬بشتّى‭ ‬الطّرق‭. ‬لطالما‭ ‬سمعتُه‭ ‬يطلب‭ ‬منها‭ ‬المسامحة،‭ ‬ويعتذر‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬تقصيره‭ ‬وانشغاله‭. ‬ويطلب‭ ‬اليها‭ ‬أن‭ ‬تحتسب‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬ويشهد‭ ‬هو‭ ‬بذلك‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يكفّ‭ ‬عن‭ ‬الدّعاء‭ ‬لها‭.‬ ونحن‭ ‬نرى‭ ‬كلَّ‭ ‬ذلك‭ ‬منه‭ ‬متأثرين‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬تعويضها‭ ‬عن‭ ‬النقص‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬غيابه‭ ‬الطويل‭ ‬والمتكرر‭.‬
وكان‭ ‬يشملنا‭ ‬نحن‭ ‬ايضاً‭ ‬بلطف‭ ‬المعاملة،‭ ‬وإظهار‭ ‬الحنان‭ ‬والمودة،‭ ‬لكن‭ ‬علاقته‭ ‬معنا،‭ ‬ومع‭ ‬أخي‭ ‬ألاكبر‭ ‬كانت‭ ‬ضمن‭ ‬حدود،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬القصير‭ ‬كافياً‭ ‬للانفتاح‭ ‬عليه،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬ضيف‭ ‬مهما‭ ‬حسنت‭ ‬أخلاقه‭. ‬بقي‭ ‬ذلك‭ ‬الحاجز‭ ‬ماثلاً‭ ‬بيننا،‭ ‬حاجز‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬هدمه‭ ‬أو‭ ‬تخطيه،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬القصير‭ ‬كنا‭ ‬أنا‭ ‬وأخي‭ ‬نحبه‭ ‬كما‭ ‬يحب‭ ‬المرء‭ ‬شيئاً‭ ‬جميلاً‭ ‬وبعيداً،‭ ‬حبّ‭ ‬تكتنفه‭ ‬علاقة‭ ‬شبه‭ ‬رسمية‭ .‬
وحدها‭ ‬أختي‭ ‬الصغيرة‭ ‬فاطمة‭ ‬تجاوزت‭ ‬هذا‭ ‬الحاجز،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬كيف‭ ‬استطاعت‭ ‬ذلك،‭ ‬ربما‭ ‬صغر‭ ‬سنها‭ ‬هو‭ ‬السبب،‭ ‬أو‭ ‬لأنه‭ ‬أحاطها‭ ‬بعناية‭ ‬خاصة،‭ ‬وفسح‭ ‬لها‭ ‬مجالاً‭ ‬أوسع،‭ ‬كنا‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬معها‭ ‬عطفاً،‭ ‬وأبوةً‭ ‬أكبر،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الدلال،‭ ‬يعاملها‭ ‬كأنه‭ ‬صديقها‭ ‬الصغير،‭ ‬فتخطت‭ ‬هي‭ ‬الحاجز‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬أنا‭ ‬تجاوزه،‭ ‬فكانت‭ ‬تتحدث‭ ‬اليه،‭ ‬وتخبره‭ ‬بكلِّ‭ ‬تفاصيل‭ ‬يومياتها‭ ‬في‭ ‬غيابه،‭ ‬حتى‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬تتجرأ‭ ‬حين‭ ‬يطول‭ ‬غيابه‭ ‬أن‭ ‬تعاتبه،‭ ‬وتطلب‭ ‬منه‭ ‬العودة،‭ ‬وتشكو‭ ‬فقده‭.‬
كان‭ ‬يقول‭ ‬لها‭ ‬حين‭ ‬تلحّ‭ ‬عليه‭ ‬بالشكوى‭ ‬من‭ ‬غيابه‭:‬ ‭ - ‬أنت‭ ‬وضعك‭ ‬أفضل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الشهداء‭.. ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يحلمون‭ ‬بعودة‭ ‬والدهم،‭ ‬وأنا‭ ‬وإن‭ ‬تأخّرتُ‭ ‬أعود‭ ‬إليكِ‭.‬
تلك‭ ‬كانت‭ ‬معرفتي‭ ‬بأبي،‭ ‬وظلّت‭ ‬كذلك‭ ‬حتّى‭ ‬تاريخ‭ ‬قدومه‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬اي‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬تمّوز‭ ‬2006‭ ‬حين‭ ‬استلم‭ ‬ملف‭ ‬إعادة‭ ‬الإعمار،‭ ‬حيث‭ ‬بقي‭ ‬شهرين‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬عاد‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬ايران،‭ ‬وأمضى‭ ‬أسبوعاً‭ ‬كاملاً‭ ‬فيها،‭ ‬أنهى‭ ‬خلاله‭ ‬كل‭ ‬الإجراءات‭ ‬اللازمة‭ ‬لاصطحابنا‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭. ‬وكان‭ ‬إخوتي‭ ‬قد‭ ‬أنهوا‭ ‬عامهم‭ ‬الدّراسي،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬حين‭ ‬استقرّ‭ ‬بنا‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬عندها‭ ‬فقط‭ ‬بدأتُ‭ ‬أعرف‭ ‬أبي‭ ‬عن‭ ‬قرب،‭ ‬إذ‭ ‬سمح‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬الايام‭ ‬الأولى‭ ‬بالبقاء‭ ‬إلى‭ ‬جانبه،‭ ‬فقد‭ ‬تسلّمتُ‭ ‬أنا‭ ‬وأخي‭ ‬مهاماً‭ ‬خاصّة‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬الهيئة‭ ‬الايرانية‭. ‬وكان‭ ‬عمل‭ ‬أخي‭ ‬الأكبر‭ ‬إداريّاً،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فقد‭ ‬كنتُ‭ ‬الأوفر‭ ‬حظّاً،‭ ‬لأن‭ ‬عملي‭ ‬كان‭ ‬ميدانيّاً‭ ‬،‭ ‬وسمح‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭ ‬بمرافقته‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أعماله‭ ‬ومشاريعه‭.‬
لقد‭ ‬استطعتُ‭ ‬خلال‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬أن‭ ‬أظهر‭ ‬كفاءتي،‭ ‬وظهرت‭ ‬حاجته‭ ‬لي،‭ ‬وتعزّزت‭ ‬ثقته‭ ‬بي،‭ ‬خاصة‭ ‬وإنه‭ ‬لم‭ ‬ينشئ‭ ‬علاقاتٍ‭ ‬وثيقةً‭ ‬مع‭ ‬لبنانيين‭ ‬بعد‭. ‬حتى‭ ‬بتُّ‭ ‬لا‭ ‬أفارقه‭ ‬إلا‭ ‬نادراً‭.‬
لقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬مفترقاً‭ ‬حاسماً‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬قريباً‭ ‬منه،‭ ‬كنت‭ ‬أراه‭ ‬بوضوحٍ‭ ‬شديد‭. ‬لقد‭ ‬رايتُه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أحواله،‭ ‬وتيقنّت‭ ‬خلالها‭ ‬بأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفه،‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬معرفتي‭ ‬به‭ ‬تتوسع‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وأعرف‭ ‬الجديد‭ ‬عن‭ ‬شخصيته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬وهالني‭ ‬ما‭ ‬عرفته،‭ ‬كنتُ‭ ‬أنظر‭ ‬إليه‭ ‬مبهوراً‭ ‬تسكنني‭ ‬الدهشة‭ ‬والإعجاب،‭ ‬كان‭ ‬يعاملني‭ ‬خلال‭ ‬عملي‭ ‬معه‭ ‬كأي‭ ‬عامل‭ ‬عادي،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يتعبني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬باقي‭ ‬العاملين‭ ‬معه‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أحمل‭ ‬أي‭ ‬ميزة‭ ‬عنهم‭ ‬لكوني‭ ‬ابنه‭. ‬فيشقّ‭ ‬عليّ‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬ويعاملني‭ ‬كربّ‭ ‬عمل‭ ‬حاسمٍ‭ ‬وشديدٍ‭. ‬أصبحت‭ ‬معرفتي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأشهر‭ ‬القليلة‭ ‬أكثر‭ ‬غنىً‭ ‬من‭ ‬تسعة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً،‭ ‬وقد‭ ‬رأيتُ‭ ‬صفاتاً‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أخالها‭ ‬فيه‭. ‬بل‭ ‬ما‭ ‬كنتُ‭ ‬أظنّها‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬رجلٍ‭ ‬واحدٍ‭. ‬كنت‭ ‬أقف‭ ‬ذاهلاً‭ ‬أمام‭ ‬الذي‭ ‬أراه‭ ‬منه‭.‬
حين‭ ‬بدأنا‭ ‬العمل‭ ‬كانت‭ ‬الأولوية‭ ‬لإعادة‭ ‬تأهيل‭ ‬المدارس،‭ ‬فالعام‭ ‬الدّراسي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الأبواب‭. ‬رأيتُ‭ ‬حينذاك‭ ‬شخصيته‭ ‬الحاسمة‭ ‬والقوية‭. ‬فإدارة‭ ‬البداية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أصعب‭ ‬التحديات،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يعتبر‭ ‬في‭ ‬الأولويات‭ ‬من‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬مختلفة،‭ ‬في‭ ‬تضاربٍ‭ ‬مربك،‭ ‬وكان‭ ‬يدير‭ ‬هذا‭ ‬بحسمٍ،‭ ‬وبرؤيةٍ‭ ‬واضحةٍ‭ ‬ثابتةٍ،‭ ‬لا‭ ‬يحيد‭ ‬عنها‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف‭ ‬والضغوط‭. ‬ومنذ‭ ‬البداية،‭ ‬أصرّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المخصصات‭ ‬المالية‭ ‬تحت‭ ‬إشرافه،‭ ‬وهو‭ ‬وحده‭ ‬الموكل‭ ‬بالصَّرف‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬الهدر‭ ‬والفساد‭. ‬عرّضه‭ ‬ذلك‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الضغوط‭ ‬الكبيرة،‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬هنا‭ ‬لذكر‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬لكنني‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عرفتُ‭ ‬كم‭ ‬هو‭ ‬حازمٌ‭ ‬وقوي‭ ‬الشخصية،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬مهما‭ ‬بلغت‭ ‬رتبته‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬أو‭ ‬السياسية‭ ‬أن‭ ‬يثنيه‭ ‬عن‭ ‬عزمه‭ ‬في‭ ‬مراعاة‭ ‬الأولويات‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬الناس،‭ ‬والإمساك‭ ‬بكامل‭ ‬زمام‭ ‬الأمور‭.‬ وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬ملف‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬وتأهيل‭ ‬المدارس،‭ ‬بدأ‭ ‬المهندس‭ ‬بجولات‭ ‬على‭ ‬المناطق‭ ‬المتضررة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭ ‬إلى‭ ‬البقاع‭. ‬مناطقٌ‭ ‬عديدة‭ ‬متباعدة‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬لبنان‭ ‬إلى‭ ‬أقصاه،‭ ‬يتنقل‭ ‬بينها‭ ‬مدوناً‭ ‬جميع‭ ‬المعلومات‭ ‬والإحصاءات،‭ ‬مهتماً‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬الصغيرة،‭ ‬مراعياً‭ ‬في‭ ‬حساباته‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭. ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬لقائه‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬رأيتُ‭ ‬الحبّ‭ ‬في‭ ‬عينيه،‭ ‬في‭ ‬كلامه،‭ ‬وفي‭ ‬احترامه‭ ‬الشديد،‭ ‬خاصة‭ ‬للفقراء،‭ ‬وعامّة‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬رأيتُ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الحبّ،‭ ‬رأيتُ‭ ‬رجلاً‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬الانتماء‭ ‬لغير‭ ‬الفقراء‭. ‬وكم‭ ‬كان‭ ‬يتدفّق‭ ‬حبّاً‭ ‬كلما‭ ‬التقى‭ ‬بعوائل‭ ‬الشهداء‭.‬
وحين‭ ‬بدأت‭ ‬المشاريع،‭ ‬واشتدّ‭ ‬الضغط،‭ ‬رأيتُ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬لهذه‭ ‬الشخصية‭ ‬الفذة‭. ‬وجه‭ ‬الرّجل‭ ‬العملي‭ ‬الحريص‭ ‬على‭ ‬الوقت‭ ‬والمال،‭ ‬والذي‭ ‬يتابع‭ ‬كل‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة‭ ‬تتعلق‭ ‬بالعمل،‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالجلوس‭ ‬خلف‭ ‬المكاتب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬تواجده‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬تواجده‭ ‬خلف‭ ‬المكتب‭. ‬تكشَّفت‭ ‬لي‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬،‭ ‬وكلما‭ ‬ازدادت‭ ‬تكشفاً،‭ ‬كلما‭ ‬ازددتُ‭ ‬انبهاراً‭ ‬وإعجاباً‭ ‬بها‭. ‬ فهذا‭ ‬الرّجل‭ ‬الدقيق‭ ‬الحازم‭ ‬المنظّم‭ ‬الذي‭ ‬يدير‭ ‬آلاف‭ ‬العمال‭ ‬في‭ ‬عشرات‭ ‬المشاريع‭ ‬والورش،‭ ‬ويتعامل‭ ‬مع‭ ‬أعلى‭ ‬الناس‭ ‬شأناً‭ ‬اجتماعياً‭ ‬وسياسياً،‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬العامل‭ ‬البسيط‭ ‬الذي‭ ‬يلبس‭ ‬لباس‭ ‬العمال،‭ ‬ويعمل‭ ‬معهم‭ ‬بيده،‭ ‬وتحت‭ ‬الشمس‭. ‬يضحك‭ ‬معهم‭ ‬ويتناول‭ ‬طعامهم‭.‬
وكان‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬قلبه‭ ‬الكبير،‭ ‬قلب‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬قلب‭ ‬طفل،‭ ‬لم‭ ‬يصادف‭ ‬طفلاً‭ ‬إلا‭ ‬وقبله،‭ ‬ولاعبه،‭ ‬وسأله‭ ‬عن‭ ‬إسمه،‭ ‬وعن‭ ‬مدرسته،‭ ‬ويختم‭ ‬حديثه‭ ‬معهم‭ ‬بقبلة‭ ‬على‭ ‬الرأس،‭ ‬وقطعاً‭ ‬من‭ ‬الحلوى‭ ‬كان‭ ‬يحملها‭ ‬دائماً‭ ‬معه‭ ‬لهذا‭ ‬الغرض‭.‬ وأذهلني‭ ‬كم‭ ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬محبوب،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخالفه‭ ‬الراي،‭ ‬أو‭ ‬يزعجه‭ ‬بسبب‭ ‬وقوفه‭ ‬مع‭ ‬الحق‭ ‬بلا‭ ‬مهادنة‭. ‬فاستقامته‭ ‬لم‭ ‬تبعد‭ ‬الناس‭ ‬عنه‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متوقّع‭.‬ أعرف‭ ‬متعهداً‭ ‬يكنّ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الودّ‭ ‬والاحترام‭ ‬لأبي،‭ ‬استغربتُ‭ ‬كثيراً‭ ‬حين‭ ‬قيل‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬تعامله‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬حسم‭ ‬عليه‭ ‬أبي‭ ‬200‭,‬000‭$‬،‭ ‬لأنه‭ ‬استعمل‭ ‬مواداً‭ ‬من‭ ‬نوعيّة‭ ‬أخفّ‭ ‬مما‭ ‬تمّ‭ ‬الاتفاق‭ ‬عليه،‭ ‬وهو‭ ‬مبلغ‭ ‬كبير‭. ‬وإذا‭ ‬بهذا‭ ‬المتعهد‭ ‬يزداد‭ ‬حبا‭ ‬وتعلقا‭ ‬بأبي‭.‬
لا‭ ‬يتهاون‭ ‬أبداً‭ ‬في‭ ‬جودة‭ ‬العمل،‭ ‬حرصاً‭ ‬على‭ ‬الوقت‭ ‬والمال،‭ ‬ويتعامل‭ ‬مع‭ ‬المخالفين‭ ‬بحزم‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬قاسياً‭. ‬هناك‭ ‬شيئ‭ ‬في‭ ‬شخصيته‭ ‬يجذب‭ ‬الناس‭ ‬اليه،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حتى‭ ‬لأعدائه‭ ‬إلا‭ ‬التأثّر‭ ‬به،‭ ‬فلقد‭ ‬أحبه‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬معه،‭ ‬فكيف‭ ‬بي‭ ‬أنا‭.‬ في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬كانت‭ ‬عواطفي‭ ‬تتجمع،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حباً‭ ‬فحسب‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يتجمع‭ ‬في‭ ‬قلبي،‭ ‬كان‭ ‬حبا‭ ‬وانبهارا،‭ ‬دهشةً‭ ‬واعجاباً،‭ ‬واستمرت‭ ‬عواطفي‭ ‬في‭ ‬ازدياد‭ ‬نحوه‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭. ‬وكانت‭ ‬على‭ ‬أشدّها‭ ‬حين‭ ‬طرحت‭ ‬مسألة‭ ‬زواجي‭. ‬علمت‭ ‬خلالها‭ ‬أنّ‭ ‬أبي‭ ‬كان‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬السنين‭ ‬يتابعنا‭ ‬بدقة‭ ‬عبر‭ ‬والدتي،‭ ‬ويعرف‭ ‬الكثير‭ ‬عنا،‭ ‬وعن‭ ‬عاداتنا،‭ ‬وأهوائنا،‭ ‬وطبائعنا‭.‬
ولأنه‭ ‬أحبّ‭ ‬اللبنانيين‭ ‬كثيراً،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬بيننا‭ ‬وبينهم‭ ‬صلة‭ ‬قربى،‭ ‬ووجد‭ ‬عندي‭ ‬هوى‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬متابعته‭ ‬القديمة‭ ‬لي‭ ‬عارفاً‭ ‬بذوقي‭ ‬وأفكاري،‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭ ‬واضحاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حديثه‭ ‬معي،‭ ‬فصرت‭ ‬أردد‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭: ‬إن‭ ‬أبي‭ ‬يعرفني‭ ‬خير‭ ‬المعرفة‭.‬ وتم‭ ‬الاتفاق‭ ‬مع‭ ‬والدتي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬رأيت‭ ‬منه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الودّ‭ ‬والحنان،‭ ‬لقد‭ ‬تأثرت‭ ‬كثيراً‭ ‬بالذي‭ ‬أبداًه‭ ‬لي،‭ ‬وبما‭ ‬فعله‭ ‬رغم‭ ‬ضيق‭ ‬وقته،‭ ‬وعلمت‭ ‬بمدى‭ ‬اطلاعه‭ ‬على‭ ‬سريرتي‭ ‬وأفكاري‭. ‬
في‭ ‬يوم‭ ‬ميلاد‭ ‬خطيبتي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬تناول‭ ‬العشاء‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬ذويها،‭ ‬فارسل‭ ‬إليها‭ ‬معي‭ ‬هدية‭ ‬لها‭ ‬باسمه،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬تحدثنا‭ ‬مطولاً‭ ‬بشأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬الزواج،‭ ‬وترك‭ ‬لي‭ ‬الخيار‭ ‬كاملاً‭ ‬في‭ ‬شان‭ ‬سكننا‭ ‬والزفاف‭.‬ وفي‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬غادر‭ ‬بيروت‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وعند‭ ‬وصوله‭ ‬حاولت‭ ‬الإتصال‭ ‬به،‭ ‬وكان‭ ‬الأمر‭ ‬صعباً،‭ ‬وعندما‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬الجهاز،‭ ‬منعتني‭ ‬من‭ ‬سماع‭ ‬صوته،‭ ‬مما‭ ‬جعلني‭ ‬ارسل‭ ‬له‭ ‬رسالة‭ ‬نصية‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬الجوال،‭ ‬والى‭ ‬الآن‭ ‬لم‭ ‬أتلقّ‭ ‬رداً‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الرسالة‭.‬ لن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬الأسى‭ ‬الذي‭ ‬خلفه‭ ‬نبأ‭ ‬استشهاده،‭ ‬ورحيله‭ ‬المفاجئ،‭ ‬لكن‭ ‬ندماً‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬جوارحي،‭ ‬أشعرني‭ ‬بوجع‭ ‬شديد‭. ‬ندمٌ‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا،‭ ‬وتذكرت‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬حضنته‭ ‬يوماً،‭ ‬وما‭ ‬قبّلت‭ ‬رأسه،‭ ‬أو‭ ‬يديه،‭ ‬وتمنيت‭ ‬بشدة‭ ‬لو‭ ‬يعود،‭ ‬ولو‭ ‬ليوم‭ ‬واحد،‭ ‬لكي‭ ‬أرتمي‭ ‬في‭ ‬أحضانه‭ ‬وأقبله‭ ‬مراراً‭. ‬
عند‭ ‬عودتنا‭ ‬إلى‭ ‬ايران‭ ‬لإتمام‭ ‬مراسم‭ ‬الدفن،‭ ‬اخترت‭ ‬أن‭ ‬أنزله‭ ‬بنفسي‭ ‬إلى‭ ‬لحده،‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬وجهه‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬جميلاً‭ ‬رغم‭ ‬الموت،‭ ‬وضعت‭ ‬يدي‭ ‬تحت‭ ‬رأسه‭ ‬واحتضنته،‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬يده‭ ‬وتذكرت‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬قبلتهما‭ ‬يوماً،‭ ‬فأخذت‭ ‬يده‭ ‬ومسحت‭ ‬بها‭ ‬وجهي‭ ‬والدموع،‭ ‬وقبلتها‭ ‬بحرقة،‭ ‬وتلك‭ ‬كانت‭ ‬القبلة‭ ‬الأولى‭ ‬والأخيرة‭.‬