img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

الاعتماد‭ ‬على‭ ‬النفس


كان‭ ‬يحرّضني‭ ‬على‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬نفسي،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬أطلب‭ ‬الى‭ ‬أحد‭ ‬شيئاً‭ ‬طالما‭ ‬كنت‭ ‬أستطيع‭ ‬فعله‭ ‬بنفسي،‭ ‬وساق‭ ‬لي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬والأحاديث‭ ‬المروية‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬بيت‭ ‬العصمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخصوص،‭ ‬ومن‭ ‬الأمثلة‭ ‬التي‭ ‬ساقها‭: ‬تجربته‭ ‬الشخصية،‭ ‬وما‭ ‬تعلمه‭ ‬منها،‭ ‬ثم‭ ‬حدثني‭ ‬قائلاً‭:‬
‭ - ‬لقد‭ ‬تعلمت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدروس‭ ‬التي‭ ‬جعلتني‭ ‬أعتمد‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة،‭ ‬و‭ ‬أهم‭ ‬تلك‭ ‬الدّروس‭ ‬كانت‭ ‬الحادثة‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬أنساها‭ ‬ما‭ ‬دمت‭ ‬حياً‭.‬
ثم‭ ‬جلس‭ ‬جلسة‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬التحدث‭ ‬بإسهاب‭ ‬وقال‭:‬
‭ - ‬لقد‭ ‬كنت‭ ‬صغيراً‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الابتدائية‭ ‬الأولى،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬ميسورة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الأساتذة‭ ‬حينها‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬الأهل‭ ‬في‭ ‬تحمّل‭ ‬بعض‭ ‬أعباء‭ ‬المدرسة،‭ ‬ففي‭ ‬أحد‭ ‬الصفوف‭ ‬وقبل‭ ‬انتهاء‭ ‬الحصة‭ ‬الدراسية‭ ‬سألنا‭ ‬المعلم‭ ‬من‭ ‬منا‭ ‬يستطيع‭ ‬شراء‭ ‬الطبشور‭ ‬غداً؟‭
‬ولما‭ ‬تردد‭ ‬باقي‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬رفعت‭ ‬يدي،‭ ‬حاملا‭ ‬على‭ ‬عاتقي‭ ‬جلب‭ ‬الطبشور‭ ‬غداً،‭ ‬لأن‭ ‬ثمن‭ ‬الطبشور‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غالياً،‭ ‬وكنت‭ ‬واثقاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬سيعطيني‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬اليسير‭ ‬بسهولة،‭ ‬لكنني‭ ‬حين‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬فوجئت‭ ‬برفض‭ ‬أبي،‭ ‬لقد‭ ‬صُدمت‭ ‬بالرفض‭ ‬صدمة‭ ‬كبرى،‭ ‬وبدأت‭ ‬أتخيّل‭ ‬ذُلَّ‭ ‬الموقف‭ ‬غداً‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬ماذا‭ ‬سيقول‭ ‬لي‭ ‬الأستاذ،‭ ‬وبماذا‭ ‬سيكتب‭ ‬الطلاب‭ ‬غداً،‭ ‬واي‭ ‬عقاب‭ ‬واي‭ ‬لوم‭ ‬سيقع‭ ‬عليّ‭ ‬وأنا‭ ‬الذي‭ ‬تعهدت‭ ‬جلب‭ ‬الطبشور؟‭
‬وبدأت‭ ‬قطرات‭ ‬العرق‭ ‬تتسرب‭ ‬من‭ ‬جبهتي،‭ ‬وأنا‭ ‬أتخيل‭ ‬كم‭ ‬سيكون‭ ‬الإحراج‭ ‬شديداً،‭ ‬إنه‭ ‬أشدّ‭ ‬مما‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أتحمله،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬دفعني‭ ‬إلى‭ ‬الإلحاح‭ ‬على‭ ‬أبي،‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬الإلحاح‭ ‬لدرجة‭ ‬التوسّل،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬فأبي‭ ‬حينها‭ ‬كان‭ ‬خالي‭ ‬الجيب‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬القليل‭. ‬وتابع‭ ‬يقول‭:‬
وقفت‭ ‬مذهولاً‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬ماذا‭ ‬أفعل‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬الصعبة،‭ ‬بل‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬المصيبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬أراها‭ ‬حينها،‭ ‬أذ‭ ‬كيف‭ ‬سأعود‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬غداً؟‭ ‬جلست‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬الباب،‭ ‬لقد‭ ‬أسقط‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬يدي،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬أمامي‭ ‬سوى‭ ‬البكاء‭. ‬كنت‭ ‬ابكي‭ ‬بكاء‭ ‬من‭ ‬أصابته‭ ‬مصيبة‭ ‬لاحول‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬بردّها،‭ ‬ويبدو‭ ‬ان‭ ‬بكائي‭ ‬ارتفع‭ ‬لشدة‭ ‬ما‭ ‬أعُانيه،‭ ‬حينها‭ ‬سمعت‭ ‬أمي‭ ‬صوت‭ ‬البكاء‭ ‬فجزعت،‭ ‬وأنا‭ ‬الذي‭ ‬قلّما‭ ‬كنت‭ ‬أبكي،‭ ‬سألتني‭ ‬بلهفة‭ ‬عمّا‭ ‬يبكيني،‭ ‬فحدثتها‭ ‬عن‭ ‬مصيبتي‭ ‬الجليلة،‭ ‬وإذ‭ ‬بها‭ ‬تُطيّبُ‭ ‬خاطري،‭ ‬وسعت‭ ‬سعيها‭ ‬وتدبرت‭ ‬لي‭ ‬المبلغ‭. ‬
هدأ‭ ‬خاطري‭ ‬واستكان‭ ‬اضطرابي،‭ ‬وأنا‭ ‬حائر‭ ‬ومرتبك‭ ‬كيف‭ ‬أشكرها،‭ ‬لقد‭ ‬أزاحت‭ ‬عن‭ ‬كاهلي‭ ‬همّاً‭ ‬كبيراً‭ ‬وعبئاً‭ ‬ثقيلاً،‭ ‬لكن‭ ‬شيئاً‭ ‬جديداً‭ ‬قد‭ ‬تواجد‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬شيئاً‭ ‬صنعته‭ ‬المعاناة‭ ‬والموقف‭ ‬الصعب،‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أمي‭ ‬تأمين‭ ‬المبلغ؟‭!‬
لقد‭ ‬كتبت‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬قراراً‭ ‬بقلم‭ ‬ذلك‭ ‬الموقف‭ ‬الصعب،‭ ‬لقد‭ ‬حُفر‭ ‬القرار‭ ‬حفراً‭ ‬في‭ ‬وجداني،‭ ‬كان‭ ‬القرار‭ ‬الحازم‭ ‬الجازم‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أطلب‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬مالاً‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف،‭ ‬وعليه‭ ‬بدأت‭ ‬أتدبر‭ ‬أمري‭ ‬كلما‭ ‬شعرتُ‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المال،‭ ‬بعدها‭ ‬بايام‭ ‬قليلة‭ ‬بدأت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬الدكان‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬منزلنا‭ ‬لعدة‭ ‬ساعات،‭ ‬أساعد‭ ‬فيها‭ ‬صاحب‭ ‬الدكان‭ ‬في‭ ‬البضاعة،‭ ‬وفي‭ ‬ترتيب‭ ‬المحل،‭ ‬مقابل‭ ‬بعض‭ ‬المال،‭ ‬ثم‭ ‬عملت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬البناء،‭ ‬وكنت‭ ‬أصغر‭ ‬العمال‭ ‬حينها،‭ ‬ولم‭ ‬أطلب‭ ‬المال‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أبداً‭.‬